الرياضيات هي الموضوع الذي لا نعرف فيه عما نتحدث، ولا نعرف إن كان ما نقوله صحيحاً أم لا."
لكم هو وجيز هذا التعريف بالرياضيات الذي قدمه برتراند رَسِّل، أحد كبار علمائها وأحد كبار فلاسفة العلم. وإذا كان هذا التعريف يوحي بشيء من التواضع؛ فإنه على العكس تماماً يمثِّل أقسى ما يمكن أن يدَّعيه الرياضيون من الفخر، كما أنه يشير ضمنياً إلى الثقة المطلقة بالرياضيات، رغم ما فيها من اتساع وتجريد وصعوبة، بل ومن تناقضات لا تخلو منها ظاهرياً على الأقل. فمع أنها ما فتئت تتابع التقدم والنمو، سابقة جميع العلوم الأخرى، لكي تقدم لها الخلفية اللازمة لنموها، ومع أن استخدام الرياضيات في شَقِّ الميادين في تزايد، بشكل أكثر فأكثر تأثيراً – كل ذلك رغم ما فيها من تجريد –، فهذا كلُّه يكاد يجعلنا نجزم بعدم فائدتها... ورغم كل ما تقدَّم، فإننا، إذ نتحدث في الرياضيات البحتة، نجدنا، بالفعل، نتكلم في موضوع لا نعرف فيه عمَّا نتحدث، ولا نعرف إذا كان ما نقوله صحيحاً أم لا...
إن كل ذلك ليؤكد أهمية وعظمة هذا الفرع من فروع الفكر الإنساني.
فما هي الرياضيات بادئ ذي بدء؟
يحتاج إدراك ما تنطوي عليه كلمة "رياضيات" إلى دراسة مقدار غير ضئيل منها. وذلك شرط لازم، لكنه غير كافٍ؛ إذ يلزم أيضاً وجود بصيرة نافذة وحدس عميق يتمثل السر الكامن وراء الدراسات المجردة – ذلك السر الذي يعطي الرياضيات سحرها وجلالها –، كما يلزم موهبة من نوع خاص تنمو مع نمو الدراسة الرياضية وتُصقَل بتقدمها. ومع ذلك، يمكننا تجاوز الأمر عن طريق بعض المقاربات البسيطة وترك المفهوم يوضح نفسه بنفسه من خلال سياق الحديث.
*
يجري التمييز عادة بين رياضيات بحتة ورياضيات تطبيقية. والأولى هي التي تشكل موضوع حديثنا، وهي تلك الفروع من الرياضيات المغرِقة في التجريد التي تظهر، للوهلة الأولى، بعيدة كل البعد عن التطبيق والإفادة على الصعيد العملي. فهي ضرب من الفن الفكري الرفيع الذي يطوره أصحابه بدافع واحد، هو تنمية بنائه أكثر فأكثر، سواء كانت في ذلك فائدة عملية أم لم تكن. لكننا، في الحقيقة، لا نستطيع أن نفصل أبداً بين الرياضيات المجردة والرياضيات التطبيقية. فهذا العلم–الفن إنما يبدأ دوماً أفكاراً مجردة وبنى غريبة خاصة، تؤلف عوالم قائمة بذاتها، وتبدو بعيدة جداً عن عالم الواقع. لكن الفيزيائيون والتقانيون والعلماء الآخرون من مختلف الفروع سرعان ما يجدون حلولاً لمشاكلهم، في هذه العوالم المجردة التي غالباً ما يكون واضعوها قد أشادوها لأغراض مستقلة عن أي وظيفة عملية... ومع ذلك يشدد الرياضيون أنفسهم أن الرياضيات الحقة هي تلك التي لا تُعنى بأي تطبيق، بل تسعى إلى إكمال ذاتها كبنيان خاص، بل كعالم مستقل يستطيع الفكر فيه أن يجد مجالاً رحباً لإمكانياته الحقيقية. إن الرياضيات، ضمن هذا المنظور، فن من الفنون، بل هي أحد أرقى الفنون، من حيث إنها أصعبها. هذا ما يراه برتراند رَسِّل أيضاً حين يقول: "إننا لو استعرضنا الرياضيات استعراضاً صحيحاً، لما وجدنا فيها الحقيقة وحسب، بل وجدنا فيها جمالاً سامياً جمالَ البرود والقسوة والصرامة. هو جمال فيه الصفاء والسناء، والمقدرة على بلوغ الكمال، الذي لا يتاح إلا لأعظم الفنون."
*
ومع ذلك، يطرح الجميع السؤال: هل يكفي ذلك كي تتمتع الرياضيات بكل تلك الأهمية؟ ومن جهة أخرى: لماذا وكيف يكون لهذه البنى المغرِقة في التجريد هذه الضرورة؛ وما هي الكيفية التي يعمل بها هذا العلم في دفع العلوم الأخرى وإتاحة الفرصة لها للتقدم باستمرار؟ لماذا يجب على تلامذة المدارس – أيضاً – أن يتعرفوا إلى البنى الجبرية ونظرية المجموعات، وعلى جبر بول، وأن يدرسوا التوابع الأسِّية واللوغاريتمية، وأن يطلعوا على الفراغ الشعاعي والتطبيقات الخطية والأعداد العقدية، وغير ذلك من الأسس الأولية للرياضيات، دون أن يعرفوا أو أن يكون لهم الحق بالتساؤل، عن فائدة هذه الدراسات ودورها ومدى فائدتها وضرورتها – بل دون أن يفيدوا – ظاهرياً على الأقل – من هذه الدراسات في حياتهم اللاحقة.
قد يجد بعض هؤلاء الطلاب – وأعني منهم الذين يتابعون دراسات علمية معينة – بعضاً من الجواب على ذلك السؤال الكبير: "لماذا الرياضيات؟" لكن الإجابة الكاملة نادراً ما يتوصل إليها حتى أولئك الذين يتَّخذون الرياضيات نفسها مادة لدراساتهم الجامعية والعليا أو وسيلة لكسب رزقهم! ورغم ذلك، تستمر الرياضيات بالتدخل في حياة الناس، على جميع المستويات، ويزداد دخولها في المناهج الجامعية إلى حد لا تخلو منها فيه حتى كليات الآداب!
*
تتعامل الرياضيات مع كائنات مجردة، مع بنات أفكار وبنات خيال، وليس مع أمور ملموسة أو مفاهيم طبيعية، كما هي الحال في العلوم الأخرى. ولعل هذا هو السبب الرئيسي، ظاهرياً على الأقل، في بُعْدِ الرياضيات عن الإسهام المباشر في عملية معرفة الطبيعة – إلا من خلال العلوم الأخرى. ولكن... لنتوقف قليلاً هنا، عند كلمة "المعرفة".
لقد سعى الإنسان منذ البدء لوعي وجوده ولمعرفة الحقيقة التي تنتظم هذا الوجود.فهو يبحث دائباً مستقصياً كل الأشياء، ممعناً في تحليل كل ما حوله؛ ذلك أن شعوراً عميقاً، واعياً حيناً وخافياً في أغلب الأحيان، يغذي فيه نزعة البحث، ويؤكد له وجود حقيقة أولية تنتظم الكون بمجمله، بما فيه الوجود الإنساني، حقيقة لا يستطيع المرء التنكُّر لها؛ إذ يعني إنكارها إفراغاً للوجود الإنساني من معناه. ومن رسالته هذه تكون حياة الإنسان تفتحاً في طريق المعرفة، وتحقيقاً يسعى لإكمال ذاته في الوصول إليها.
ولكي نكون أكثر وضوحاً في تحديد معاني الكلمات. نشير إلى أن مفهوم الحقيقة، ضمن ما ورد، لا يعني كمية من المعلومات الصحيحة، أو حتى كل المعلومات الصحيحة الممكنة. وهو ليس صيغة أو قانوناً نهائياً يصف العالم بجملته وتفصيله. إذ إن أية معلومة هي معلومة نسبية حُكْماً، وأية نظرية علمية هي نظرية تستطيع الاضطلاع بوصف بعض مظاهر الطبيعة ضمن ظروف وأحوال معينة؛ بينما نحن نتحدث هنا عن معرفة الحقيقة المطلقة، الحقيقة التي نعتبر الوصول إليها غاية الوجود الإنساني ورسالته. إن ما نرمي إليه عندما نتحدث عن الحقيقة هو حالة أخرى من الوجود أكثر سمواً. ومعرفة الحقيقة هي بالتحديد سياق الترفُّع نحو هذه الحالة.
إن المعرفة، بهذا المعنى، هي فعل تحقيق، لا امتلاك، وبمعنى أكثر وضوحاً ودقة نقول إن فعل معرفة الحقيقة هي فعل تفتح ذهني، وتالياً نفسي، يتجاوز فيه الإنسان إمكانياته ليصعِّدها إلى مرتبة أرفع. فللمعرفة، كما رآها الشيخ محي الدين ابن عربي، ثلاثة أشكال: أولها ثقافي، وثانيها عاطفي، أما الثالث فيجسد المعرفة الحقة، التي تميِّز معرفة الحقيقة. وفي الشكل الثالث يمكن للمرء وعي ما هو صواب وحق فيما يتعدَّى حدود الفكر والإحساس.
كذا لا نفرق بعد بين عبارة "فعل معرفة الحقيقة" وعبارة "سيرورة التفتُّح البشري" – هذا الفعل وتلك السيرورة اللذين سلك فيهما الإنسان طرقاً شتى، من فنون وعلوم وفلسفات وأديان، ومن طرائق روحية ومدارس سِرَّانية وعلوم نفسية وطرق أخرى أكثر من أن تحصى... وإذا كنا لا ننكر أهمية جميع أوجه النشاط هذه وتكاملها في توجيه الإنسان نحو تحقيق ذاته، فإننا نشدد على دور العلم – وأعني العلم البحت – كونه الطريق الأكثر جمعيَّة في قيادة هذه السيرورة على المستوى العالمي. إن العلم، وفي أساسه الرياضيات، هو أهم الطرق التي توجِّهنا إلى إدراك الحقيقة المنشودة. وكما قال مرة العالم الكبير ألبرت أينشتاين: "لا يتردد العلم أبداً في معارضة المنطق العام الفطري. فالذي يخشاه هو التضارب بين المفاهيم السائدة والمعطيات الجديدة. وإن حدث هذا التضارب، فإن العلم سرعان ما يسحق الفرضيات القائمة ليصعِّد معرفتنا إلى سوية أعلى." وواقع الأمر أننا إذا راجعنا بتأنٍّ بعض صفحات تاريخ العلم، وجدنا أن كل اكتشاف علمي هو في الظاهر إضافة معلومات جديدة، لكنه في الجوهر قفزة نوعية في سلَّم معرفتنا، مع كل ما يعني ذلك من تغير في بنيتنا نفسها، على مستويات شتَّى.
إن اكتشاف لامركزية الأرض، على سبيل المثال، يمكن أن يعني في العمق نقلة نوعية للإنسانية نحو تجاوز أنانية جمعية، إن جاز التعبير، ونحو فهم أفضل لموقع هذه الإنسانية في الكون. أما الرياضيات، فلا يخفى أنها تقع – على حد سواء – في أساس اختراع غاليليو لمنظاره، وفي قلب رقصة الكواكب الأبدية في السماء. وكمثال آخر، إذا تأملنا الثورة المعلوماتية التي تعم عالمنا المعاصر، نرى أن هذا التقدم المعلوماتي، الذي ما كان ليتم بدون رياضيات شديدة التعقيد وعالية المستوى، إنما يشير في الجوهر إلى خطوة هامة نحو شعور أكبر بوحدة وعالمية الإنسان وتحقيق أعمق لهما.
لقد قادتنا الرياضيات، عبر تاريخ تطورها الطويل، إلى تصور فكري محدد وغير ضبابي لفكرة اللانهاية عبر نظرية المجموعات؛ وأوضحت لنا مفهومي الحركة والاستمرار عبر حساب التفاضل والتكامل؛ وحددت لنا معنى الصدفة من خلال نظرية الاحتمالات؛ وأخيراً وليس آخراً، يعالج أحدث فروع الرياضيات مفهومي النظام والفوضى ليعطيهما معنى رياضياً لا لبس فيه، وهو الأمر الذي تتصدى له نظرية الشواش Chaos Theory. بيد أن تأملاً عميقاً يجعلنا نرى في هذه الأمثلة الوجه الآخر للتطور الرياضي: لقد أعطت دراسة نظريات المجموعات لعقولنا مقدرة أعلى، فأصبح بإمكانها تحليل اللانهاية؛ وزوَّد فهم التحليل الرياضي أدمغتنا بأضواء جديدة يلقيها على مفهوم الحركة؛ ومنحتنا نظرية الاحتمالات بصيرة نواجه من خلالها إشكالية الصدفة... ولا يخفى على أحد أن مفاهيم من هذا النمط: اللانهاية – الحركة – الصدفة – النظام والفوضى، الخ. هي مفاهيم–مفاتيح في فهمنا للكون والتعرف إليه. ولكن... كيف تفعل الرياضيات ذلك؟ بأية طريقة؟
*
البنية الرياضية:
يصوِّر لنا أستاذ الرياضيات الأميركي ديفيد برغاميني طبيعة تكوين البناء الرياضي بأسلوب أدبي مرح فيقول: "إن الرياضيات قد بلغت من التعقيد حداً يجعل صحة نقطة انطلاق ما أو عدم صحتها غير ذي أهمية. بل إن المهم هو أن نحاكم نقطة الانطلاق محاكمة سليمة حتى نخرج منها بنتيجة. ويستطيع الرياضي، وفق هذه القاعدة، أن يفرض، دون تردد أو وَجَل، أن القمر مصنوع من جبنة خضراء، ثم أن يلجأ إلى مناقشة مقنعة، مستخدماً سلسلة من نقاط الانطلاق الأخرى حتى يصل إلى نتيجة، يستحث فيها ملاحي الفضاء على حمل البسكويت معهم. وواقع الأمر أن عظمة الرياضيات إنما تكمن في كونها لا تقوم على أسس منطقية بالضرورة. بل إن بعض فروع الرياضيات إنما تبنى على فرضيات تتحدى الخيال والحس السليم والمنطق الفطري، أو بالأحرى، تسمو بالخيال وتهذب الحس وترتفع بالمنطق الفطري إلى درجة أعلى. إن كل ما يلزم لإقامة بناء رياضي هو وضع فرضيات نختارها بشكل لا يتعلَّق بصحتها أو خطئها، ثم الالتزام بعد ذلك بمعالجة الفرضيات الموضوعة واستخلاص نتائج جديدة منها، ضمن قواعد المنطق؛ فتكون جميع هذه النتائج صحيحة ومقبولة وجزءاً من البنية التي نقوم بوضعها. بيد أن الغريب في الأمر هو أن جميع فروع الرياضيات وبناها، الموضوعة وفق هذه الطريقة، تلتقي فيما بعد في قَواسِم مشتركة وتتكامل، من جهة أخرى، مع بعضها بعضاً، لتصوِّر لنا، بشكل أكثر فأكثر كمالاً، صورة البناء الرياضي للطبيعة بأسرها.
لقد كانت حقيقة وجود بناء رياضي ينتظم الطبيعة أمراً مسلَّماً به خلال جميع العصور؛ وقد عبَّر عنه أفلاطون قديماً حين قال: "ما انفكَّ الإله يمارس الهندسة" – القول الذي كرَّره، بعد ألفي عام، الألماني جاكوبي قائلاً: "ما انفك الإله يمارس الحساب." أما جيمس جينز فهو يرى أن "مهندس هذا الكون العظيم قد بدأ يظهر على أنه عالم رياضي بحت!"
ثمة قناعة راسخة، عند كبار العلماء والمفكرين عبر جميع العصور، تؤكد أن الظواهر الطبيعية، بجملتها وتفصيلها، هي انعكاس مادي يقوم وراءه بناء رياضي مجرد، يعبَّر عنه بالمعادلات والرموز والأعداد والأشكال، وكأن العالَم المادي مصمَّم وفق بنية رياضية يشبه بناؤها البنية التي تحدَّثنا عنها.
إن ديكارت الذي كان يعتبر نفسه فيلسوفاً أكثر منه رياضياً، قد طرح تساؤلاً حول مدى استطاعة الرياضيات – وليدة التفكير البحت للعقل البشري – تزويدنا بالمعرفة عن العالم الطبيعي، لو لم تكن هذه الرياضيات نفسها قائمة في جوهر خلق العالم. أما غاليليو – وهو نفسه العالم الذي اضطهد لقوله بدوران الأرض – فهو يرى "أن المبادئ الرياضية هي الأبجدية التي كتب بها الله هذا العالم؛ وبدونها سوف يكون صعباً علينا أن نفهم كلمة واحدة من كتاب الطبيعة".
إن هذا التطابق بين البناء الرياضي والبناء الطبيعي، ليس أمراً شديد الأهمية فحسب، بل هو بالنسبة للرياضيين مصدر فرح وغبطة. يقول الرياضي ليو كادانوف: "إنها لعمري تجربة لا نظير لها. أن يعي العالِم أن ما يجري في دماغه يتناسب تماماً مع ما يجري في الطبيعة. إنها أفضل ما يمكن أن يحدث للرياضي. ولكم هو رائع أن يكون ذلك ممكناً. إن الدهشة تتملَّكه إذ يكتشف أن بناءً قد أشاد صرحه عبر فكره الخاص يمكن أن يتحقق بالفعل في عالم الواقع. أية صدمة كبرى، وأي فرح كبير جداً جداً!"
كان اكتشاف الهندسات اللاإقليدية خلال القرن الماضي أحد أكبر الامتحانات لقدرة الرياضيات على النطق باسم الطبيعة. فقد تحدَّت هندسة لوباتشفسكي، ومن بعدها هندسة ريمَن، وغيرهما من الهندسات، أن تجد تطبيقاً لها أو إمكانية لإسقاطها في العالم الطبيعي. فقد بدت هندسة لوباتشفسكي، بدايةً، ضرباً من الشطح الفكري، إن لم يكن من الجنون، واعتُبِرت نوعاً من بناء رياضي مجرد لا سبيل للإفادة منه. لكن ذلك لم يَطُلْ جداً؛ إذ سرعان ما وجدت الهندسات اللاإقليدية، على تنوعها وتعددها، تطبيقاتها المختلفة، بدءاً من العلوم البيولوجية وانتهاءً بالنظرية النسبية، لتثبت لنا مرة أخرى أن عالم المطلق يوازي دوماً عالم الواقع، أو كما قيل في القديم: "كما في السماء كذلك على الأرض."
*
فلنعد للحديث عن البناء الرياضي، ولنأخذ عليه مثالاً معروفاً جداً، هو الهندسة المستوية، أو، كما تسمى في الرياضيات، الهندسة الإقليدية؛ وهي نفسها التي تُدرَّس لطلاب الصفوف الإعدادية. يتألف البناء الرياضي، كما أسلفنا، من مجموعة من نقاط الانطلاق سوف نسميها بدءاً من الآن "الموضوعات"؛ وهي في الهندسة المستوية – مثالنا – خمس موضوعات:
1. من كل نقطتين يمر مستقيم واحد
2. يمكن مدُّ أي مستقيم من نهايتيه بالقدر الذي نشاء
3. يمكن من أية نقطة إنشاء دائرة نصف قطرها أي طول معطى
4. جميع الزوايا القائمة متساوية
5. من نقطة غير واقعة على مستقيم يوجد موازٍ واحد لهذا المستقيم
فلنلاحظ أننا استخدمنا في صياغة هذه الموضوعات مفردات تأخذ معنى خاصاً في علم الهندسة. وتنقسم هذه المصطلحات إلى نوعين: يضم الأول منها الكلمات "مستقيم"، "نقطة"، "تقع بين"، التي تُسمَّى "مفاهيم أولية"؛ ويضم النوع الثاني كلمات مثل "دائرة"، "زاوية"، الخ؛ وهي كائنات هندسية يمكن تعريفها بواسطة المفاهيم الأولية، أو باستخدام مصطلحات سبق تعريفها بدلالة هذه المفاهيم. فالدائرة، على سبيل المثال، هي مجموعة النقط التي يكون البعد الواقع بينها وبين نقطة ثابتة ثابتاً. أما المفاهيم الأولية فتُعتبَر واضحة بذاتها وذات مدلول مشترك عند الجميع، وتجري انطلاقاً منها صياغة كائنات هندسية جديدة تشكل النوع الثاني من المصطلحات.
تؤلف النظريات (المبرهَنات) الجزء الهام من البناء الهندسي. إنها مجموعة من الحقائق، تتعلق بالكائنات الهندسية التي تمَّ تعريفها، وتُستنتَج انطلاقاً من مجموعة الموضوعات الخمس (أو من نظريات أخرى سبق أن استُنتِجت من هذه الموضوعات). كذا يمكننا أن نبرهن مثلاً أن مجموع زوايا المثلث هو 180ْ، وأن قطرَيْ متوازي الأضلاع متناصفان، إلى غير ذلك من الحقائق الهندسية التي يدرسها طلاب المرحلة الإعدادية.
تسمَّى هذه الطريقة في البناء الطريقة الموضوعاتية الاستنتاجية، وهي الطريقة التي تميز ما يُسمَّى بالرياضيات الحديثة.
*
من الأهمية بمكان أن نشدِّد هنا على كون الهندسة – هذا البناء الذي تحدثنا عنه (وهو في الواقع بناء أثري يعود لزمن إقليدس) – ليس أكثر من لعبة منطقية مجردة لا علاقة لها بالواقع بأي حال من الأحوال. إنها تشبه تماماً لعبة الشطرنج، حيث تمثل المفاهيم الأولية أحجار (قطع) اللعب، وتمثل الموضوعات قواعد اللعبة؛ أما الهندسة نفسها فتمثل جميع التشكيلات الممكنة في لعبة الشطرنج، وهي تشكيلات لانهائية العدد نظرياً.
من هذا المنظور، يُعتبَر علم الهندسة أمراً غير ذي أهمية بالنسبة لعالم الفيزياء أو الرياضي التطبيقي. ولكن عندما يُثبِت الأخير تجريبياً أن مستقيماته ونقاطه الواقعية تصفها بدقة كبيرة التجريداتُ الرياضية الهندسية، وعندما يرى أن الموضوعات والنظريات تصف فعلاً سلوك نقاطه ومستقيماته وأشكاله الواقعية، عندئذٍ فحسب تتحول الهندسة إلى عالَم التطبيق والواقع.
*
نحو الهندسات اللاإقليدية
سوف تبقى الهندسات اللاإقليدية إحدى أروع النفائس في متحف الرياضيات. وهي تقدم لنا مثالاً جيداً على ما أشرنا إليه من كون "صحة" نقطة انطلاق ما (أي موضوعة ما) غير ضرورية كي يكون البناء الرياضي سليماً. لقد جاءت هندسة لوباتشفسكي تتويجاً لجهود استمرت أكثر من ألفي عام بحثاً عن كمال أكبر لهندسة إقليدس، لكنها جاءت، في الوقت نفسه، ثورة في تاريخ الرياضيات، بل في تاريخ الفكر البشري، وقفزة كبرى إلى الأمام، لا في الرياضيات وحدها، بل، أولاً وأخيراً، في عقلية عالِم الرياضيات وخياله، وبالتالي في نحت القدرة الذهنية للإنسان. يجدر بنا أن نذكر هنا الانتقادات الكثيرة التي تعرَّض لها لوباتشفسكي والنعوت الفظة التي أُطلِقت عليه عندما قدَّم للمرة الأولى أفكاره اللاإقليدية. فحتى غاوس، أحد أكبر علماء الرياضيات على مر القرون، كان يعتبر أن نشر مثل هذه الأفكار لا يخلو من مجازفة خطيرة.
تختلف موضوعات هندسة لوباتشفسكي عن موضوعات هندسة إقليدس في الأخيرة منها فقط. فبدلاً من موضوعة إقليدس الخامسة: "من نقطة غير واقعة على مستقيم يوجد موازٍ واحد فقط لهذا المستقيم"، نجد عند لوباتشفسكي أنه "من نقطة غير واقعة على مستقيم يمكن إنشاء عدد غير منتهٍ من المستقيمات الموازية لهذا المستقيم". إن المقولة الأخيرة متعذرة من وجهة النظر الحدسية المباشرة. لكن ذلك ليس مهماً أبداً، بل المهم في الأمر هو أننا عندما نعمد، انطلاقاً من موضوعات لوباتشفسكي الخمس، إلى استنتاج مقولات جديدة (نظريات)، فإننا قد نحصل على نظريات ربما تعارض ما نسميه خطأً الحسَّ السليم، لكننا لا نحصل أبداً على مقولات متناقضة فيما بينها! فعلى سبيل المثال، يبرهَن في هندسة لوباتشفسكي أن العمود المشترك على مستقيمين متوازيين غير ثابت الطول في جميع المواضع؛ وهذه النتيجة التي لا نستطيع أن نتصورها ذهنياً، ولا أن نقبلها للوهلة الأولى، هي نتيجة منطقية تماماً للموضوعات التي انطلقنا منها. فما هو أكثر أهمية هو أن هذا البناء الجديد – هندسة لوباتشفسكي – يتكامل مع الهندسة الإقليدية ويقابل بنى طبيعية لا تتفق معها. وهذا ما قصدناه عندما أشرنا إلى أن جميع الفروع الرياضية والبنى الموضوعة وفق الطريقة الموضوعاتية الاستنتاجية تلتقي في قَواسِم مشتركة وتتكامل فيما بينها، لتقدم لنا، بشكل أكثر فأكثر كمالاً، صورة البناء الرياضي للطبيعة.
الرياضيات، إذن, بتبسيط شديد، مجموعة من مثل هذه البني. إنها تبدو، للوهلة الأولى، كمجموعة أبنية مختلفة وغير متجانسة؛ لكنها في الحقيقة تتطور وتنمو باتجاه تشكيل تأليف متناغم، لعلنا نستطيع أن نسميه عالَم الرياضيات. وهذا العالَم ليس شيئاً ثابتاً ومستقراً، بل هو، مثل كل عالَم آخر، حيٌّ وديناميٌّ، يتفاعل مع نفسه لينمو أبداً بشكل مستمر. إن عالَم الرياضيات هو عالَم مطلق، كونه عالم من التجريدات أبدعناه نحن أنفسنا, وبنيناه لبنة لبنة من مفاهيم خاصة انتزعناها من أعماق أفكارنا وكون في ذات الوقت عالم الظواهر الطبيعية نفسه مع كثير من التهذيب والتشذيب. إن عالَم الرياضيات موجود مسبقاً: موجود فينا، بدليل أننا نستطيع فهمه وإدراكه؛ وموجود في الطبيعة من حولنا، لأننا نراه في كل ظواهرها. وهو، مع ذلك، عالم مفارق transcendent، خارج عنا ومترفع عن عالمنا الطبيعي, الذي ليس في الحقيقة سوى مجموعة من الصور المشوهة له. إن عالَم الرياضيات هو عالم نقوم بإبداعه وصياغته بقدر ما نكتشفه وندركه. وبهذا القدر أيضاً يصبح فهم الطبيعة أقرب إلينا ويصبح فهم أنفسنا في متناولنا:
كذا تكون الرياضيات هي التصميم أو النموذج الهندسي المجرد للعالم الطبيعي، بكل ما فيه، ومن ضمنه الإنسان. ويؤكد ذلك في صيغة أخرى العالم الفيزيائي الكبير هايزنبرغ إذ يقول:
"إن الأجزاء الصغرى من المادة – الذرات – ليست هي الكائنات الأساسية كما يقول ديمقرطس، بل الكائنات الأساسية هي الصيغ الرياضية."
يوضح لنا مثال تطور الهندسة، وصولاً إلى الهندسات اللاإقليدية، كيفية تطور الفكرة الرياضية في مثال هام من تاريخ الرياضيات. لكن المهم في الأمر هو ما تنطوي عليه سيرورة هذا التطور، ألا وهو السيرورة الموازية لتفتح الفكر باتجاه استيعاب المفاهيم الجديدة. فلا يختلف اثنان على الإقرار بأن ذهناً يستطيع قبول، وفهم، وتصوُّر عدد من المستقيمات المتقاطعة توازي مستقيماً واحداً آخر، لا بل وتصوُّر العالَم الذي تصحُّ فيه هذه الموضوعة، لهو ذهن يختلف كثيراً عن الذهن الإقليدي الذي لا يستطيع أن يقبل ما يخالف الموضوعة الخامسة لإقليدس. إن هذه القدرة على تخيل واستيعاب عالَم لاإقليدي، وبشكل عام القدرات التي يكتسبها عالِم الرياضيات بفضل استطاعته التذهُّنيَّة الجديدة، يجعل من تدريب بسيط للذهن كافياً لنقل هذه الإمكانيات. ويمكن القول، على وجه العموم، إن أية معرفة جديدة للفرد إنما تخص بالأحرى الجنس البشري ككل. فليست هناك معرفة خاصة أو تجربة فكرية خاصة. ولعلنا نستطيع أن نتحدث بشكل من الأشكال عن "واعية جمعية"، أو عقل جمعي يخص بني البشر، ويشتمل على جميع معارف ومدرَكات الأفراد. ولعل ملامح هذا العقل الجمعي قد بدأت بالظهور للعيان، تكشف عنها الثورة المعلوماتية المعاصرة.
كذا نرى فعل الرياضيات – والعلم على بوجه عام – فينا. إننا نختلف بكل تأكيد عن أجدادنا. فالهندسة المستوية التي كانت قبل ألفي سنة موضوعاً صعباً وشائكاً تدرسه نخبة العلماء في ذلك الزمان هي اليوم مقرَّر لتلاميذ لا تتجاوز أعمارهم الخمسة عشر من السنين. قياساً على ذلك، وقياساً على تسارع التقدم العلمي والتعليمي، يمكننا أن نتصور وقتاً، غير بعيد ربما، يدرس فيه طلاب المدارس الثانوية النظرية النسبية والميكانيكا الكوانتية، مع كل الرياضيات العالية اللازمة لذلك!
*
في حياته العلمية، يستطيع العالم الرياضي الغارق بين أشكاله ومعادلاته أن يعيش حياة أخرى – نوعاً من الحياة لا يستطيع أي إنسان تخيُّلها: حياة في أربعة أبعاد أو أكثر مثلاً، أو حياة لاإقليدية في فراغ لاإقليدي. وقد يتجاوز الرياضي، في بعض لحظات استغراقه في عمله، الزمان والمكان، أو على الأقل يعيشهما بطريقة مختلفة. إن العلم والرياضيات، بالنسبة للمشتغل فيهما، ليسا بنظرياتهما وتشكيلاتهما مجرد تمثيلات للحقيقة. فالمنظومة العصبية للعالِم تتجاوز تمثيل الحقيقة إلى الحقيقة نفسها. إن العالِم يحيا نظرياته وتشكيلاته تماماً كما يحيا كل منا حياته الخاصة. ولكنْ، هل نستطيع، بالأحرى، فصل حياة الإنسان إلى "علمية" و"عملية"؟ ألا تتأثر الثانية بالأولى بقدر أو بآخر؟ وإذا تساءَلنا، في نظرة مستقبلية، عن كيفية تعميم هذه الفكرة بعد وقت قد يطول أو يقصر، عندما تصبح رياضيات اليوم العليا شيئاً من أساسيات التعليم في المراحل الأولى؟ أفلا ينعكس ذلك على حياة الناس نفسها، على الحياة اليومية في كل أبعادها؟ نتساءل أيضاً إن كان تطور كالذي نتحدث عنه يمثل تفتحاً فكرياً وحسب. فإذا كان الإنسان سيتعامل، على سبيل المثال، مع الزمن كبعد رابع، أفلا يعني ذلك أن مفهوم الزمن قد تغير؟ أولا نكون، بصورة ما، قد تجاوزنا الزمن وأفلتْنا من إساره؟! ألا يمكن أن نقول عندئذٍ إننا حققنا تطوراً نفسياً وروحياً؟!
سوف يجد إنسان المستقبل نفسه – وفي خضم الحياة اليومية نفسه – أمام مفاهيم ونظريات من قبيل النسبية والكوانتا. وقد بدأنا منذ الآن نسمع عن الحاسب الكوانتي، كما بدأ الأميركيون والروس بناء ما يمكن أن يتحول إلى قرية فضائية خارج الأرض. سوف نحيا إذن في عوالم لا نستطيع بالفعل التنبؤ عن ماهيَّتها، لكننا نجزم أنها تفوق عالَمنا تقدماً بأشواط بعيدة. يشبه الفرق بين عالم الغد وعالمنا الفرق بين الأخير وبين العالم منذ بضعة آلاف من السنين، حين كانت الأحداث الطبيعية نتاج أعمال الآلهة المختلفة، وكان الجن والعفاريت وراء أمراضنا، وكانت الأرض محمولة على ظهر سلحفاة عملاقة! وكما نسخر اليوم من مجرد فكرة أرض منبسطة (مستوية) فقد يسخر إنسان المستقبل من فكرة كون ثلاثي الأبعاد كالذي نحيا فيه اليوم. بل لقد فعل ذلك ستيفن هوكنغ، أحد كبار الرياضيين المعاصرين عندما قال: "بالنسبة للجميع يصعب تخيل كون بأربعة أبعاد. أما من جهتي فإني أجد صعوبة في رؤية الكون بثلاثة أبعاد."
إننا نستطيع، على كل حال، تمثل الفرق بيننا وبين أسلافنا. لكننا نعجز تماماً عن التنبؤ بما يمكن أن تصبح عليه الحال بعد آلاف أو مئات أو حتى عقود من السنين. لكن بإمكان الرياضي وحده، ربما، استشفاف الاحتمالات المختلفة لما يمكن أن يحدث.
عودة أخرى لطرح التساؤلات: ألا يتمتع الإنسان نفسه في العمق بقدرات وملكات، بل وبطبيعة أخرى أيضاً؟ فإن كنا نستطيع فهم وتعلُّم أشياء عديدة عن عوالم لاإقليدية، على سبيل المثال، أفلا يعني ذلك أننا نمتلك طبيعة لاإقليدية أيضاً؟ ونتابع التساؤل: أي نوع من العوالم هو ذاك الذي تنشط فيه أدمغتنا ونظمنا العصبية ومنظوماتنا النفسية؟
ليس ثمة شك في وجود قوانين علمية تقوم على رياضيات عالية، ربما لم نستطع بلوغها حتى الآن، تحكم نشاط منظوماتنا النفسية والعصبية. والحال، فإن معرفة هذه القوانين يعني فهماً أفضل لأنفسنا وقدرة على ترويضها وتوجيهها. إن إبداع علم نفس حقيقي، علم يستند على توصيف رياضي واضح ومتماسك، يعني دخول الإنسانية عهداً جديداً من التطور النفسي. فكما يقول فريد ألان في كتابه مع القفزة الكمومية: "إنني أرى الميكانيكا الكوانتية ضرورية في تطور البشر وعلم النفس." وإنني أقول معه مروراً: "إني أرى الرياضيات لا ضرورية فحسب بل ركناً أساسياً في تطور البشر وعلم النفس."
*
نخلص إلى استنتاج نعتبره إجابة على السؤال الأساسي "لماذا الرياضيات؟" – وهو أن الرياضيات تسهم في سيرورة تطورنا الخاص بطريقتين: بشكل مباشر أولاً، إذ تعني دراستها وممارستها تفتحاً للذهن، وشحذاً للخيال، وإيقاظاً للحدس؛ وثانياً، عن طريق العلم البحت الذي تقع الرياضيات في قلبه والذي يحمل رسالة: لا السيطرة على الطبيعة واستغلالها من أجل تحقيق رفاهية مزعومة لبني البشر، بل قيادة الإنسان نحو فهم موقعه ودوره في الطبيعة والاضطلاع بهما – رسالة تحقيق القصد من الوجود الذي سمَّيناه معرفة الحقيقة.
*
إن العلم بناء متعدد المظاهر، كما يقول أينشتاين. لكنه في الجوهر بناء واحد لا يتغير. إنه رياضيات في أثواب مختلفة. إن الرياضيات تنمو باطِّراد وتحتاج في كل عام عند قدوم العيد إلى ثوب جديد أجمل وأوسع قياساً، فتغيِّر ثوبها. ونرى نحن الثوب الجديد دون أن نلحظ ما وراءه. إن كل نظرية جديدة، في مختلف فروع العلم، إنما تقوم على رياضيات جديدة في قلب تصميمها.
يبدو الأمر في العلم كما لو أننا نراوح مكاننا. إننا نكتشف أو نضع نظرية علمية لا نستطيع أبداً أن نثبت صحتها بشكل نهائي ومطلق، لكننا نقبل بها بقدر ما تفسر لنا من الظواهر الطبيعية. وعندما نكتشف ظواهر جديدة تعجز نظرياتنا القديمة عن شرحها نصبح بحاجة إلى نظرية جديدة أكثر شمولاً. ويتكرر الأمر مع النظرية الجديدة أيضاً؛ فكأننا ندور في حلقة مفرغة. لكن مثل هذه الصورة للواقع ناقصة بعض الشيء. إننا ندور بالفعل في دائرة واحدة، لكن المستوي الذي تقع فيه هذه الدائرة ليس مستوياً ثابتاً أبداً؛ إنه مستوٍ مترفِّع باستمرار. وبذلك يصبح مسار العلم، لا دورياً ضمن دائرة، بل حلزونياً في الفراغ الثلاثي. وإذا كنا لا نشعر بحركة هذا المستوي الذي يتطور فيه العلم، فلسبب واحد هو أننا جزء منه، نعيش فيه ونترفع بترفُّعه. يشبه الأمر تماماً لعبتنا مع الأرض، بيتنا الكوني. إننا لا نستطيع أبداً الإحساس بأننا نُبحِر في الكون الرحب حول الشمس وحول المجرة لأننا جزء من الأرض ومن حركتها. ربما استطعنا أن نعي ذهنياً فحسب حركة الأرض في الكون، لكننا لا نستطيع أبداً أن نشعر بهذه الحركة. ومع ذلك، تتابع الأرض حركتها، أو كما قال غاليليو: "ومع ذلك فهي تدور!" ينطبق الأمر نفسه أيضاً على العلم الذي يتابع طريقه متسامياً نحو الأعلى باستمرار. أما نحن فمقودون به في سيرورة تفتح لا تنتهي.
*
هكذا يقودنا العلم في رحلة نحو الأبدية. أما الرياضيات فهي، كما أشرنا، تقوم من العلم مقام العمود الفقاري من الجسم؛ ولا نستطيع أبداً وصف نظرية ما بالعلمية إن لم تستند بالأحرى على بناء رياضي سليم. نستطيع الذهاب أبعد من ذلك أيضاً. فقد يكون بالإمكان المضي قدماً في رحلتنا العتيدة في قطار الرياضيات المجردة وحدها. ذلك ما رآه أينشتاين حين كتب: "إنني مقتنع أن البناء الرياضي وحده يتيح لنا أن نجد المفاهيم وأن نستنبط المبادئ التي ترتبط فيما بينها، وبذلك تسنح لنا الفرصة لفهم ظواهر الطبيعة. فالمفاهيم الرياضية القابلة للاستعمال يمكن أن تُستوحى من التجربة، لكنها لا تُستنتَج منها بحال من الأحوال. وعلى هذا الأساس، وبمعنى ما، أرى أن من الحق والممكن للفكر البحث أن يستوعب الحقيقة."
*
أخيراً، وبعد كل ذلك وقبله، إذا لم يكن كل ما قلناه كافياً ومقنِعاً لإيضاح دور الرياضيات وإبراز أهميتها، فإن ما هو كافٍ بالنسبة للرياضي هو أن الرياضيات فن رفيع. وحسب ذلك سبباً للإبحار في محيطها. إنها فن بكل المعنى الذي تتضمنه الكلمة، وبكل ما في الفنون العظمى من جمال وشفافية ورؤيا، حتى لقد قال أحد الرياضيين: "إن الذي لم يختبر فرح معرفة الأسرار التي تربط الرموز المختلفة وتشيد البنى المعقدة وتحل المعادلات المستحيلة، سواء كان لكل ذلك معنى أم لم يكن، لا يمكنه أن يعي الجمال المجرد ولا أن يعرف عظمة الطبيعة ولا أن يرى سطوع الحقيقة، تلك الحقيقة الوحيدة الأزلية غير القابلة للتفسير أو للتعبير عنها."
سوف تبقى الهندسات اللاإقليدية إحدى أروع النفائس في متحف . وهي تقدم لنا مثالاً جيداً على ما أشرنا إليه من كون "صحة" نقطة انطلاق ما (أي موضوعة ما) غير ضرورية كي يكون البناء الرياضي سليماً. لقد جاءت هندسة لوباتشفسكي تتويجاً لجهود استمرت أكثر من ألفي عام بحثاً عن كمال أكبر لهندسة إقليدس، لكنها جاءت، في الوقت نفسه، ثورة في ، بل في الفكر البشري، وقفزة كبرى إلى الأمام، لا في وحدها، بل، أولاً وأخيراً، في عقلية عالِم وخياله، وبالتالي في نحت القدرة الذهنية للإنسان. يجدر بنا أن نذكر هنا الانتقادات الكثيرة التي تعرَّض لها لوباتشفسكي والنعوت الفظة التي أُطلِقت عليه عندما قدَّم للمرة الأولى أفكاره اللاإقليدية. فحتى غاوس، أحد أكبر علماء على مر القرون، كان يعتبر أن نشر مثل هذه الأفكار لا يخلو من مجازفة خطيرة.
يصوِّر لنا أستاذ الأميركي ديفيد برغاميني طبيعة تكوين البناء الرياضي بأسلوب أدبي مرح فيقول: "إن قد بلغت من التعقيد حداً يجعل صحة نقطة انطلاق ما أو عدم صحتها غير ذي أهمية. بل إن المهم هو أن نحاكم نقطة الانطلاق محاكمة سليمة حتى نخرج منها بنتيجة. ويستطيع الرياضي، وفق هذه القاعدة، أن يفرض، دون تردد أو وَجَل، أن القمر مصنوع من جبنة خضراء، ثم أن يلجأ إلى مناقشة مقنعة، مستخدماً سلسلة من نقاط الانطلاق الأخرى حتى يصل إلى نتيجة، يستحث فيها ملاحي الفضاء على حمل البسكويت معهم. وواقع الأمر أن عظمة إنما تكمن في كونها لا تقوم على أسس منطقية بالضرورة. بل إن بعض فروع إنما تبنى على فرضيات تتحدى الخيال والحس السليم والمنطق الفطري، أو بالأحرى، تسمو بالخيال وتهذب الحس وترتفع بالمنطق الفطري إلى درجة أعلى. إن كل ما يلزم لإقامة بناء رياضي هو وضع فرضيات نختارها بشكل لا يتعلَّق بصحتها أو خطئها، ثم الالتزام بعد ذلك بمعالجة الفرضيات الموضوعة واستخلاص نتائج جديدة منها، ضمن قواعد المنطق؛ فتكون جميع هذه النتائج صحيحة ومقبولة وجزءاً من البنية التي نقوم بوضعها. بيد أن الغريب في الأمر هو أن جميع فروع وبناها، الموضوعة وفق هذه الطريقة، تلتقي فيما بعد في قَواسِم مشتركة وتتكامل، من جهة أخرى، مع بعضها بعضاً، لتصوِّر لنا، بشكل أكثر فأكثر كمالاً، صورة البناء الرياضي للطبيعة بأسرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تم ارسال تعليق